كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



{الله الذي خلق السماوات والأرض وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار}...
إنها حملة. إنها سياط تلذع الوجدان.. حملة أدواتها الهائلة السماوات والأرض والشمس والقمر والليل والنهار والبحار والأنهار والأمطار والثمار.. وسياط ذات إيقاع، وذات رنين، وذات لذع لهذا الإنسان الظلوم الكفار!
إن من معجزات هذا الكتاب أنه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. وهكذا يستحيل الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضاً لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد فيه ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة ميتافيزيقية ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يمس القلب البشري ولا يؤثر فيه ولا يوحي إليه.. إنما هو يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة، وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة واتساق.
والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه، تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء بالقياس إلى الإنسان: خط السماوات والأرض. يتبعه خط الماء النازل من السماء والثمرات النابته من الأرض بهذا الماء. فخط البحر تجري فيه الفلك والأنهار تجري بالأرزاق.. ثم تعود الريشة إلى لوحة السماء بخط جديد. خط الشمس والقمر. فخط آخر في لوحة الأرض متصل بالشمس والقمر: خط الليل والنهار.. ثم الخط الشامل الأخير الذي يلون الصفحة كلها ويظللها:
{وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}.
إنه الإعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة وكل خط وكل لون وكل ظل. في مشهد الكون ومعرض الآلاء.
أفكل هذا مسخر للإنسان؟ أفكل هذا الكون الهائل مسخر لذلك المخلوق الصغير؟ السماوات ينزل منها الماء، والأرض تتلقاه، والثمرات تخرج من بينهما. والبحر تجري فيه الفلك بأمر الله مسخرة. والأنهار تجري بالحياة والأرزاق في مصلحة الإنسان. والشمس والقمر مسخران دائبان لا يفتران. والليل والنهار يتعاقبان.. أفكل أولئك للإنسان؟ ثم لا يشكر ولا يذكر؟
{إن الإنسان لظلوم كفار}!
{الله الذي خلق السماوات والأرض}..
وبعد ذلك يجعلون لله أنداداً، فكيف يكون الظلم في التقدير، والظلم في عبادة خلق من خلقه في السماوات أو في الأرض؟
{وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم}..
والزرع مورد الرزق الأول، ومصدر النعمة الظاهر. والمطر والإنبات كلاهما يتبع السنة التي فطر الله عليها هذا الكون، ويتبع الناموس الذي يسمح بنزول المطر وإنبات الزرع وخروج الثمر، وموافقة هذا كله للإنسان. وإنبات حبة واحدة يحتاج إلى القوة المهيمنة على هذا الكون لتسخر أجرامه وظواهره في إنبات هذه الحبة وإمدادها بعوامل الحياة من تربة وماء وأشعة وهواء.. والناس يسمعون كلمة الرزق فلا يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة الكسب للمال. ولكن مدلول الرزق أوسع من ذلك كثيراً، وأعمق من ذلك كثيراً.. إن أقل رزق يرزقه الكائن الإنساني في هذا الكون يقتضي تحريك أجرام هذا الكون وفق ناموس يوفر مئات الآلاف من الموافقات المتواكبة المتناسقة التي لولاها لم يكن لهذا الكائن ابتداء وجود؛ ولم تكن له بعد وجوده حياة وامتداد. ويكفي ما ذكر في هذه الآيات من تسخير الأجرام والظواهر ليدرك الإنسان كيف هو مكفول محمول بيد الله.
{وسخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره}..
بما أودع في العناصر من خصائص تُجري الفلك على سطح الماء؛ وبما اودع في الإنسان من خصائص يدرك بها ناموس الأشياء؛ وكلها مسخرة بأمر الله للإنسان.
{وسخر لكم الأنهار}..
تجري فتجري الحياة، وتفيض فيفيض الخير، وتحمل ما تحمل في جوفها من أسماك وأعشاب وخيرات.. كلها للإنسان ولما يستخدمه الإنسان من طير وحيوان..
{وسخر لكم الشمس والقمر دائبين}..
لا يستخدمهما الإنسان مباشرة كما يستخدم الماء والثمار والبحار والفلك والأنهار.. ولكنه ينتفع بآثارهما، ويستمد منهما مواد الحياة وطاقاتها. فهما مسخران بالناموس الكوني ليصدر عنهما ما يستخدمه هذا الإنسان في حياته ومعاشه بل في تركيب خلاياه وتجديدها.
{وسخر لكم الليل والنهار}..
سخرهما كذلك وفق حاجة الإنسان وتركيبه، وما يناسب نشاطه وراحته، ولو كان نهار دائم او ليل دائم لفسد جهاز هذا الإنسان؛ فضلاً على فساد ما حوله كله، وتعذر حياته ونشاطه وإنتاجه.
وليست هذه سوى الخطوط العريضة في صفحة الآلاء المديدة. ففي كل خط من النقط ما لا يحصى.
ومن ثم يضم إليها على وجه الإجمال المناسب للوحة المعروضة وللجو الشامل:
{وآتاكم من كل ما سألتموه}..
من مال وذرية وصحة وزينة ومتاع..
{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}..
فهي أكبر وأكثر من أن يحصيها فريق من البشر، أو كل البشر. وكلهم محدودون بين حدين من الزمان: بدء ونهاية. وبين حدود من العلم تابعة لحدود الزمان والمكان. ونعم الله مطلقة فوق كثرتها فلا يحيط بها إدراك إنسان:
وبعد ذلك كله تجعلون لله أنداداً، وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله بل تبدلونها كفراً..
{إن الإنسان لظلوم كفار}!!!
وحين يستيقظ ضمير الإنسان، ويتطلع إلى الكون من حوله، فإذا هو مسخر له، إما مباشرة، وإما بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم؛ ويتأمل فيما حوله فإذا هو صديق له برحمة الله، معين بقدرة الله، ذلول له بتسخير الله.. حين يستيقظ ضمير الإنسان فيتطلع ويتأمل ويتدبر. لابد يرتجف ويخشع ويسجد ويشكر، ويتطلع دائماً إلى ربه المنعم: حين يكون في الشدة ليبدله منها يسراً، وحين يكون في الرخاء ليحفظ عليه النعماء.
والنموذج الكامل للإنسان الذاكر هو أبو الأنبياء. إبراهيم. الذي يظلل سمته هذه السورة، كما تظللها النعمة وما يتعلق بها من شكران او كفران.. ومن ثم يأتي به السياق في مشهد خاشع، يظلله الشكر، وتشيع فيه الضراعة، ويتجاوب فيه الدعاء، في نغمة رخية متموجة، ذاهبة في السماء.
{وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام ربّ إنهن أضللن كثيراً من الناس فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات لعلهم يشكرون ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالديّ وللمؤمنين يوم يوم الحساب}..
إن السياق يصور إبراهيم عليه السلام إلى جوار بيت الله الذي بناه في البلد الذي آل إلى قريش، فإذا بها تكفر فيه بالله، مرتكنة إلى البيت الذي بناه بانيه لعبادة الله! فيصوره في هذا المشهد الضارع الخاشع الذاكر الشاكر، ليرد الجاحدين إلى الاعتراف، ويرد الكافرين إلى الشكر، ويرد الغافلين إلى الذكر، ويرد الشاردين من أبنائه إلى سيرة أبيهم لعلهم يقتدون بها ويهتدون.
ويبدأ إبراهيم دعاءه:
{رب اجعل هذا البلد آمناً}..
فنعمة الأمن نعمة ماسة بالإنسان، عظيمة الوقع في حسه، متعلقة بحرصه على نفسه.
والسياق يذكرها هنا ليذكر بها سكان ذلك البلد، الذين يستطيلون بالنعمة ولا يشكرونها وقد استجاب الله دعاء أبيهم إبراهيم فجعل البلد آمناً، ولكنهم هم سلكوا غير طريق إبراهيم، فكفروا النعمة، وجعلوا لله أنداداً، وصدوا عن سبيل الله. ولقد كانت دعوة أبيهم التالية لدعوة الأمن:
{واجنبني وبنيَّ أن نعبد الأصنام}..
ويبدو في دعوة إبراهيم الثانية تسليم إبراهيم المطلق إلى ربه، والتجاؤه إليه في أخص مشاعر قلبه. فهو يدعوه أن يجنبه عبادة الأصنام هو وبنيه، يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه. ثم ليبرز أن هذه نعمة أخرى من نعم الله. وإنها لنعمة أن يخرج القلب من ظلمات الشرك وجهالاته إلى نور الإيمان بالله وتوحيده. فيخرج من التيه والحيرة والضلال والشرود، إلى المعرفة والطمأنينة والاستقرار والهدوء. ويخرج من الدينونة المذلة لشتى الأرباب، إلى الدينونة الكريمة العزيزة لرب العباد.. إنها لنعمة يدعو إبراهيم ربه ليحفظها عليه، فيجنبه هو وبنيه أن يعبد الأصنام.
يدعو إبراهيم دعوته هذه لما شهده وعلمه من كثرة من ضلوا بهذه الأصنام من الناس في جيله وفي الأجيال التي قبله؛ ومن فتنوا بها ومن افتتنوا وهم خلق كثير:
{رب إنهن أضللن كثيراً من الناس}..
ثم يتابع الدعاء.. فأما من تبع طريقي فلم يفتتن بها فهو مني، ينتسب إلي ويلتقي معي في الآصرة الكبرى، آصرة العقيدة:
{فمن تبعني فإنه مني}..
وأما من عصاني منهم فأفوض أمره إليك:
{ومن عصاني فإنك غفور رحيم}..
وفي هذا تبدو سمة إبراهيم العطوف الرحيم الأواه الحليم؛ فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله ويحيد عن طريقه، ولا يستعجل لهم العذاب؛ بل لا يذكر العذاب، إنما يكلهم إلى غفران الله ورحمته. ويلقي على الجو ظلال المغفرة والرحمة؛ وتحت هذا الظل يتوارى ظل المعصية؛ فلا يكشف عنه إبراهيم الرحيم الحليم!
ويمضي إبراهيم في دعائه يذكر إسكانه لبعض أبنائه بهذا الوادي المجدب المقفر المجاور للبيت المحرم، ويذكر الوظيفة التي اسكنهم في هذا القفر الجدب ليقوموا بها:
{ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم}..
لماذا؟
{ربنا ليقيموا الصلاة}..
فهذا هو الذي من أجله أسكنهم هناك، وهذا هو الذي من أجله يحتملون الجدب والحرمان.
{فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم}..
وفي التعبير رقة ورفرفة، تصور القلوب رفافة مجنحة، وهي تهوي إلى ذلك البيت وأهله في ذلك الوادي الجديب. إنه تعبير نديّ يندِّي الجدب برقة القلوب..
{وارزقهم من الثمرات}..
عن طريق تلك القلوب التي ترف عليهم من كل فج.. لماذا؟ أليأكلوا ويطعموا ويستمتعوا.؟ نعم! ولكن لينشأ عن ذلك ما يرجوه إبراهيم الشكور:
{لعلهم يشكرون}.
وهكذا يبرز السياق هدف السكنى بجوار البيت الحرام.
إنه إقامة الصلاة على أصولها كاملة لله. ويبرز هدف الدعاء برفرفة القلوب وهويّها إلى أهل البيت ورزقهم من ثمرات الأرض.. إنه شكر الله المنعم الوهاب.
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة واضحة في موقف قريش جيرة البيت المحرم.. فلا صلاة قائمة لله، ولا شكر بعد استجابة الدعاء، وهويّ القلوب والثمرات!
ويعقب إبراهيم على دعاء الله لذريته الساكنة بجوار بيته المحرم لتقيم الصلاة وتشكر الله.. يعقب على الدعاء بتسجيله لعلم الله الذي يطلع على ما في قلوبهم من توجه وشكر ودعاء. فليس القصد هو المظاهرات والأدعية والتصدية والمكاء. إنما هو توجه القلب إلى الله الذي يعلم السر والجهر ولا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء:
{ربنا إنك تعلم ما نخفي وما نعلن وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء}..
ويذكر إبراهيم نعمة الله عليه من قبل؛ فيلهج لسانه بالحمد والشكر شأن العبد الصالح يذكر فيشكر:
{الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق إن ربي لسميع الدعاء}..
وهبة الذرية على الكبر أوقع في النفس. فالذرية امتداد. وما أجل الإنعام به عند شعور الفرد بقرب النهاية، وحاجته النفسية الفطرية إلى الامتداد. وإن إبراهيم ليحمد الله، ويطمع في رحمته:
{إن ربي لسميع الدعاء}..
ويعقب على الشكر بدعاء الله أن يجعله مديماً للشكر. الشكر بالعبادة والطاعة فيعلن بهذا تصميمه على العبادة وخوفه أن يعوقه عنها عائق، أو يصرفه عنها صارف، ويستعين الله على إنفاذ عزيمته وقبول دعائه:
{رب اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء}.
وفي ظل هذا الدعاء تبدو المفارقة مرة أخرى في موقف جيرة البيت من قريش. وهذا إبراهيم يجعل عون الله له على إقامة الصلاة رجاء يرجوه، ويدعو الله ليوفقه إليه. وهم ينأون عنها ويعرضون، ويكذبون الرسول الذي يذكرهم بما كان إبراهيم يدعو الله أن يعينه عليه هو وبنيه من بعده!
ويختم إبراهيم دعاءه الضارع الخاشع بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين جميعاً، يوم يقوم الحساب، فلا ينفع إنساناً إلا عمله؛ ثم مغفرة الله في تقصيره:
{ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب}..